اصلاح التعليم الذي جرى على نطاق واسع في مصر و كانت له بعض الآثار في لبنان ، عمل على تطوير و تنقيح الأذهان على الثقافات الأوروبية الحديثة و مكاسبها في سائر الميادين لكن بقي هنالك عامل أساسي في نهضة كل أمة و شعورها بشخصيتها و مقوماتها الوطنية ، إلا
و هو عامل اللغة .
و من المعلوم أن اللغة العربيىة كان لها شأن كبير في تاريخ الدول العربية و الإسلامية و في نهضتها الثقافية .
فقد كانت لغة الدين ، و لغة الحضارة ، و لغة العلم بالنسبة للجميع ، و استطاعت أن تنتشر بكل سهولة في أنحاء مختلفة من الشرق إلى المغرب و تصبح هي أداة التعبير الوحيدة بالنسبة لملايين البشر .
لكن شأنها بدأ يضعف سيئا فشيئا منذ الإحتلال التركي العثماني لمعظم الدول العربية .
و بدأ استعمالها ينحصر في أوساط قليلة من العلماء و الطلبة و رجال التأليف ، و غدت اللغة التركية هي لغة التدوين أي اللغة الرسمية بالنسبة للدولة .
و نظرا لتفشي الجهل و الأمية في مختلف الطبقات ، فقد كانت اللهجات العامية المحلية هي المعروفة بالطبع ، لدى الشعب ، في حين كانت تعتبر الفصحى ــ مع تقديس الجمهور لها ــ كلغة خاصةلا يفهما إلا الراسخون في العلم .
سيما و قد أصبحت لغة لغة مغلقة على الفطرة السليمة بما غلب عليها من أساليب السجع و الإغراق في العمليات البيانية و البديعية و قد ترتبت عن هذا الجهل عواقب وخيمة مست بمعنوية الشعوب العربية ، ذلك أنها أصبحت مقطوعة الصلة بماضيها اللامع الذي صارت لا تعرف عنه شيئا ، و فقدت اعتزازها بتاريخها الحافل و عادت تعيش في كبت و استسلام تحت الحكم التركي ،العثماني .
و قد ترتب عن هذا الوضع فتور في الشعور بالوحدة و التضامن بين الشعوب العربية ، التي لم تعد تتعارف فيما بينها بواسطة اللغة و الكتاب و الثقافة كما كان الشان أيام العباسيين ببغداد و الأمويين بقرطبة و الموحدين بمراكش .
و يجب أن نشير أن بلاد الشام كانت سباقة إلى العمل على إحياء اللغة .
و لا شك أن ذلك راجع إلى عوامل محلية خاصة ، منها أن الشاميين كانوا أكثر معارضة للإحتلال التركي و منها كذلك الدور الذي استطاع أن يلعبه المسيحيون العرب بسبب وضعيتهم الخاصة .
فقد احتفظ هؤلاء دوما بعلاقاتهم مع اوروبا الناهضة ، ساعين من وراء ذلك إلى الحصول على حمايتها و عطفها ، بدفعهم إلى ذلك الشعور بأنهم أقلية مهددة .
و لابد من أن نذكر هنا العلاقات الوطيدة التي كانت قائمة بين الأمير الللبناني فخر الدين المعني و أوروبا في القرن السابع عشر .
كما نشير إلى الدور المهم الذي لعبه الراهب الماروني يوسف السمعاني حين سهل اتحاد الكنيسة اللبنانية مع السيدة البابوبة في مجمع سنة 1736 و ظهر قبل القرن التاسع عشر من بين رجال الطائفة المسيحية بالشام من اهتم باللغة العربية و متب بها .
و اهتم المرونيون في لبنان بانشاء عدة من المدارس الدينية ، إلا أن حركة التعليم ، على نطاق موسع لم تبتدئ إلا في القرن التاسع عشر .
فقد وقع في هذا العهد تنافس بين الإرساليات التبشيرية من كاثوليكية و بروستانتية ، تبرز خاصة في الميدان التعليمي .
و يجب أن ننبه في الأخير ، أن الطائفية في لبنان لم تكن تلعب آنداك الدور السلبي الذي يعمل على تمزيق البلاد و تشتيت المجتمع كما هو الشأن اليوم .
بفضل انتشار التعليم على النمط العصري ، انتعشت اللغة العربية و توسع استعمالها كتابة و قولا ، و أصبحت عي اللغة الرسمية في كل الأقطار العربية و ازداد التعلق بها حينما اكتشف ثراثها الأدبي و الفكرؤي الذي ظل منسيا طوال قرون الإنحطاط .
فان عودة اللغة العربية غلى الإنتعاش و الحياة يعني بالنسبة لتاريخ العرب الفكري :
ــ الإتصال مع الماضي اللامع الذي عاشه العرب ، مع التراث الأدبي و العلمي الذي ظل ضحية الجهل و الإهمال ، و تجلى ذلك في نشر آلاف الكتب القديمة ، و ساعد على حركة النشر هذه ضهور الطباعة و توسعها بالشام و مصر منذ أوائل القرن الماضي .
ــ الشعور بمقومات الحاضر : اللغة العربية مكنت الإتصال بين البلاد العربية و تمثين الروابط فيما بينها ، و التوعية بعناصر الإلتقاء و التقارب مع بعضها ، خصوصا مع ظهور الصحافة و انتشارها .
ــ إيجاد لغة مشتركة للتحدث عن الحاضر و عن المستقبل ، عن الواقع و عن المثل الأعلى .
و هكذا بدأت بعض الكلمات العربية او المعربة تأخذ معنى خاصا و رنينا لم يكن لها فيما سبق ،مثل كلمة وطن ، حرية ، نهضة ، شعب ، تقدم الخ ...
عادت اللغة العربية إلى الإنتعاش لكن لا كلغة قديمة ، بل كلغة حية تعبر عن التطلعات و المطامح التي تحملها الأجيال الجديدة ، و هذا ما جعلها تسترجع منذ القرن الماضي إلى الآن ، تأثيرا معنويا و عاطفيا لم يسبق له نظير .
هذا و لا ننس أنها كانت الأداة التي نقلت أفكار العرب و ثقافته إلى البلاد العربية .
و قد لخص بعض الباحثين المعاصرين وضعية اللغة العربية و دورها في يقظة العرب فقال :
(( لقد اتخذت القومية العربية في انبعاثها نفس المظاهر التي اتخذتها في إيطاليا و ألمانيا
و بلاد البلقان و غير ذلك ، فبدأتا بشكل ثقافي يهدف لإحياء التاريخ العربي و اللغة العربية
و الأمجاد العربية ، و ظلت تسير بهذا الإتجاه حتى فاجأها الضغط القومي التركي الهادف إلى تتريك العناصر القومية المختلفة التي تشكل العالم العثماني .
حينذاك برزت لدى العرب الفكرة الإستقلالية الكاملة و بدأ العمل الثوري الفعال الهادف إلى التحرر السياسي .
و من الوجهة التعبيرية البحتة ، فقد تطورت اللغة العربية تطورا ملحوظا منذ القرن الماضي و أصبحت قادرة على أداء المعاني و الأفكار التي تمخض عنها هذا العنصر ، كما تدل على ذلك الأثار الشعرية و النثرية التي يعتز بها الأدب العربي المعاصر .
و هي في نفس الوقت تشق طريقها لتصبح لغة العلوم و التقنيات الحديثة .
نعم انها مازالت في حاجة إلى مزيد من التطور لاستكمال قدرتها على أداء حاجات العصر في ميادين العلوم و التقنيات و حضارة القرن العشرين .
بصفة عامة ، و لكنها خطت خطوات جادة جعلتها توسع طاقاتها التعبيرية و تعود لغة حية تأخذ شيئا فشيئا منزلتها الممتازة بين اللغات العالمية الكبرى .
و هكذا نجد عددا من المنظمات الدولية تعترف بها كإحدى لغاتها الرسمية .
كما نشاهدها تغزو بتقدم ملحوظ ميادين التأليف في شتى الفنون و الصحافة بكل أنواعها و مستوياتها ، و كل وسائل الإعلام السمعية البصرية ، بوجه عام .